جريدة الخبير

بعد الأزمة، العملة الخضراء

بقلم توماس بيكتي

تعريب خاليد جوهري

هل تُعجل الأزمة المترتبة عن كوفيد-19 بنموذج جديد للتنمية أكثر استدامة و إنصافا؟ نعم، لكن شريطة تحمل تغيير واضح في ترتيب الأولويات و إعادة النظر في مجموعة من الممنوعات في المجال النقدي و الجبائي و التي يجب أن تكون في خدمة الاقتصاد الحقيقي و الأهداف الاجتماعية و البيئية.

في البداية يجب الاستفادة من هذا التوقف الاقتصادي المفروض من أجل إعادة الانطلاق بشكل مغاير، فبعد مثل هذا الكساد سيتوجب على السلطات العمومية أن تلعب دورا رئيسيا لإعادة انطلاق النشاط و التشغيل، لكن يجب أن يتم ذلك بالاستثمار في قطاعات جديدة (الصحة، الابتكار، البيئة) و باتخاذ قرار التخفيض التدريجي و الدائم من الأنشطة الأكثر إصدارا لغاز الكربون؛ و بشكل ملموس يجب خلق ملايين مناصب الشغل و الزيادة في الأجور داخل المستشفيات و المدارس و الجامعات، و التجديد الحراري للمباني و خدمات القرب.

في الوقت الحاضر لا يمكن أن يتم التمويل إلا بواسطة الدين مع الدعم الفعال للأبناك المركزية، هذه الأخيرة و منذ سنة 2008 أجرت خلقا ضخما للنقود قصد إنقاذ الأبناك من الأزمة المالية التي كانت هي سببا فيها، حيث انتقلت حصيلة النظام الأوربي ( شبكة الأبناك المركزية التي يقودها البنك المركزي الأوربي) من 1150 مليار أورو في بداية 2007 إلى 4675 مليار نهاية 2018، أي من 10% إلى 40% من الناتج الداخلي الخام لمنطقة الأورو (12000 مليار أورو)، فهل مكنت هذه السياسة من اجتناب الإفلاسات المتعاقبة التي تسببت للعالم في ركود 1929، لكن خلق النقود هذا قد تقرر في جلسات مغلقة و بدون تخمين ديمقراطي مناسب و ساهم كذلك في تقويض الأسهم المالية و العقارية و أغنى الأغنياء دون حل المشاكل الهيكلية للاقتصاد الحقيقي ( نقص في الاستثمار، ارتفاع اللاتكافؤ، أزمة بيئية).

دين مشترك بمعدل فائدة واحد

  

لكن يوجد خطر حقيقي نفرّ منه إلى نفس الوجهة، لقد أطلق البنك المركزي الأوروبي برنامجا جديدا لشراء الأصول حيث قفزت حصيلة النظام الأوروبي من 4692 مليار في 28 أبريل إلى 5395 مليار في 1 ماي ( حسب المعطيات التي نشرها البنك المركزي الأوروبي يوم 5 ماي)، و على الرغم من ذلك فلن يكفي هذا الحقن المكثف للنقود ( 700 مليار في شهرين ): دفوعات الفوائد المجحفة لإيطاليا التي انخفضت منتصف شهر مارس إثر إعلانات البنك المركزي الأوربي، لكن سرعان ما عادت إلى الارتفاع.

ما العمل؟ الوعي أولا أن منطقة الأورو ستبقى هشة ما دامت تختار إخضاع معدلات الفائدة التسعة عشر لمضاربة الأسواق، يجب و بشكل استعجالي إعطاء وسائل إصدار دين مشترك و بمعدل فائدة وحيد و موحد، بخلاف ما نسمع أحيانا، الهدف أولا و قبل كل شيء تبادل أسعار الفائدة و ليس إلزام بعض الدول بدفع دين دول أخرى، يجب على الدول التي تدعي بأنها في الطليعة في هذا الخصوص ( فرنسا، إيطاليا و إسبانيا) صياغة مقترح دقيق و إجرائي مع عقد مجلس برلماني يسمح بمراقبة الكل ( على غرار المجلس  الفرنسي-الألماني الذي عقد السنة الفارطة، لكن بسلطات حقيقية و منفتحة على جميع الراغبين في الانضمام)، فألمانيا التي يضغط عليها قضاتها الدستوريين كي  توضح علاقتها بأوروبا، ستشارك لا محالة حينما يوضع مقترح قوي على المائدة و عندما يستعد الشركاء الرئيسيون للتقدّم، و في كل الأحوال تمنعنا حالة الطوارئ من البقاء مكتوفي الأيدي في انتظار الإجماع الذي قد لا يأتي.

بعد ذلك علينا افتراض أن مسألة خلق النقود تخدم تمويل الإنعاش الأخضر و الاجتماعي و ليس تقويض أسهم البورصة، لقد اقترحت الحكومة الإسبانية إصدار ما بين 1000 و 1500 مليار أورو من الدين المشترك ( ما يقارب 10% من الناتج الداخلي الخام لمنطقة الأورو) و أن هذا الدين بدون فوائد ستتحمله حصيلة البنك المركزي الأوروبي على أساس دائم ( أو على المدى البعيد جدا)؛  لنتذكر أن الدين الخارجي الألماني قد تم تجميده سنة 1953 ( و أزيل قطعا في 1991) و أن الباقي من الدين الضخم لما بعد الحرب سُدّد باقتطاع استثنائي من الثروات المالية الكبيرة ( و هو ما سيتوجب القيام به اليوم كذلك)؛ حيث يجب دعم مقترح إسبانيا و تكراره كلما دعت الضرورة ما دام التضخم معتدلا، لنوضح أن الاتفاقيات لم توفر تحديدا لهدف استقرار الأسعار ( البنك المركزي الأوربي هي من حددت هدف 2%: و قد يصل 3% أو 4%)، و تشير الاتفاقيات ذاتها أن على البنك المركزي الأوروبي الإسهام في تحقيق الأهداف العامة للاتحاد التي تشمل التشغيل الكامل، التقدم الاجتماعي و حماية البيئة (اتفاقية الاتحاد الأوروبي، البند 3).

و الأكيد هو استحالة تجميع مثل هذه المبالغ دون اللجوء إلى الاقتراض، التي تشير في بروكسيل إلى أرقام فلكية عن الصفقة الخضراء دون اقتراح تمويلات لا تنمي السياسة، و بحكم التعريف، يُقصد بذلك أنهم يعيدون تدوير المبالغ المتعهَّد بها في أماكن أخرى    (مثلا باستعادة موارد من الميزانية الهزيلة للاتحاد الأوربي التي هي بالكاد 150 مليون أورو في السنة أي 1% من ن د خ الأوروبي)، و التي تتحمل نفس النفقات في العديد من المرات أو تضيف العلاقات العامة و الخاصة ( مع آثار رافعة تعكس شهية المضاربين في الكون) و في الغالب كلهم في آن واحد، يجب ان تتوقف مثل هذه الممارسات، فأوربا في خطر قاتل إذا لم تبرهن لمواطنيها على أنها قادرة على التعبئة لمواجهة كوفيد على الأقل كما فعلت من أجل أبناكها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *